من الصعب أن نكون متفائلين بشأن الوضع المالي لفرنسا مؤخرًا. وفي الأسبوع الماضي، خفضت وكالة موديز توقعات الائتمان لفرنسا من “مستقرة” إلى “سلبية”، وهي الخطوة التي تدعم أيضًا المخاوف السابقة من وكالة فيتش. ومع توقع وصول الدين إلى 115٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام المقبل وتوقع وصول العجز السنوي إلى 6.1٪، تحتل فرنسا الآن أحد أكثر المواقف المالية خطورة في أوروبا. ويثير خفض التصنيف تساؤلات كبيرة حول قدرة فرنسا على إدارة شؤونها المالية والاستقرار المستقبلي للاقتصاد الأوروبي ككل.
لمحة عامة عن المشاكل المالية في فرنسا
لقد أثار التدهور المالي في فرنسا أنتقادات كبيرة من الوكالات الدولية، حيث حذرت كل منها من المخاطر المتزايدة لأحد أكبر اقتصادات أوروبا. وفى هذا الصدد فقد أستشهدت موديز بديون فرنسا المتضخمة والعجز، فضلاً عن المناخ السياسي غير المتوقع، كأسباب رئيسية لخفض التصنيف. وارتفع الدين الحكومي للبلاد إلى 112٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مدفوعًا بالإنفاق المكثف خلال الأزمات الاقتصادية الأخيرة مثل كوفيد-19 وارتفاع التضخم اللاحق.
وكان قد أقترح رئيس الوزراء ميشيل بارنييه ميزانية تقشف لكبح الإنفاق وزيادة الضرائب على الأثرياء، بهدف توليد 60 مليار يورو من المدخرات في العام المقبل وحده. ومع ذلك، حتى هذه الخطة الطموحة كافحت لكسب الزخم، حيث واجهت مقاومة من كلا طرفي الطيف السياسي. ويعد خفض التصنيف بمثابة طلقة تحذيرية أرسلت تكاليف الاقتراض لفرنسا إلى أعلى مستوياتها منذ ما يقرب من عقد من الزمان. وكانت قد أرتفعت العائدات على السندات الفرنسية، مما يشير إلى أن المستثمرين الدوليين يطالبون بعلاوة مخاطر أعلى.
وهذا مهم بشكل خاص بالنسبة لفرنسا، التي تؤثر أسعار اقتراضها ليس فقط على الاقتصاد المحلي ولكنها تحدد أيضًا نغمة عبر الأسواق الأوروبية.
ماكرون وبارنييه: زعامة منقسمة
إن الخلاف الجوهري بين الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء ميشيل بارنييه يزيد من تعقيد المسار المالي لفرنسا. حيث يعارض ماكرون، الذي يخشى تأثير التقشف على النمو، التخفيضات الجذرية في الميزانية وزيادات الضرائب. ويزعم أن النمو الاقتصادي، الذي تغذيته الإصلاحات التي نفذها خلال فترة ولايته، من شأنه في نهاية المطاف أن يعمل على استقرار مالية فرنسا.
ويعتمد نهج ماكرون، الذي أطلق عليه “الاقتصاد الكلي”، على النمو لحل قضايا الميزانية ــ وهي الاستراتيجية التي يصعب على نحو متزايد بيعها للمستثمرين ووكالات التصنيف وسط ارتفاع الديون والعجز. وفي المقابل، يرى بارنييه أن عجز فرنسا قضية ملحة لا يمكن تجاهلها. وتعكس ميزانيته المقترحة، مع التخفيضات الحادة في الإنفاق والضرائب الجديدة، اعتقاده بأن العمل الفوري فقط هو القادر على منع المزيد من التدهور المالي.
ومع ذلك، أدى الافتقار إلى الإجماع داخل الحكومة إلى تأخير الإصلاحات الحاسمة، مما جعل خطة بارنييه عُرضة للجمود السياسي الذي يهدد مصداقية فرنسا المالية.
الأسواق المالية لا تحب القيادة المنقسمة. وإن المشهد السياسي المنقسم في فرنسا لا يزيد إلا من حالة عدم اليقين لدى المستثمرين. ومنذ أن دعا ماكرون إلى انتخابات مبكرة خلال الصيف، خسر حزبه أغلبيته السابقة، مما ترك ميزانية التقشف التي اقترحها بارنييه غارقة في المعارضة. وأضافت الفصائل اليسارية تعديلات لفرض ضرائب إضافية، في حين تدفع الفصائل اليمينية باتجاه تخفيضات أعمق.
وعليه فقد قد أثار اقتراح بارنييه بالفعل مناقشات ساخنة، حيث دفع بعض المشرعين من أقصى اليسار بفرض ضريبة ثروة جديدة بنسبة 2% على المليارديرات، والتي يقول المنتقدون إنها قد تردع الاستثمار. وكان للافتقار إلى سياسة مالية متماسكة تأثير ملموس على مصداقية فرنسا في الأسواق المالية. ولاحظت وكالات التصنيف أن الانقسامات السياسية في فرنسا تجعل من غير المرجح أن تنفذ تدابير خفض العجز المستدامة. وفي بيئة حيث تعمل العديد من دول الاتحاد الأوروبي على تشديد الميزانيات، فإن الوضع السياسي في فرنسا يشكل عبئا فريدا، مما يشير إلى ضعف إدارة الميزانية والانضباط المالي في وقت حيث الثقة أمر بالغ الأهمية.
القواعد المالية الأوروبية تحت الضغط
إن المشاكل المالية التي تواجهها فرنسا تشكل تحدياً مباشراً للقواعد المالية للاتحاد الأوروبي، والتي تحدد سقف الدين عند 60% من الناتج المحلي الإجمالي والعجز عند 3%. ولقد أرتفع الدين الفرنسي إلى ما هو أبعد من هذه الحدود، حيث بلغ الآن حوالي 112% من الناتج المحلي الإجمالي. وحتى أن المفوضية الأوروبية أثارت احتمال فرض عقوبات إذا استمرت فرنسا في انتهاك هذه القواعد.
ومع ذلك، فإن فرض مثل هذه العقوبات على ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي سيكون قراراً دقيقاً ومشحوناً سياسياً. ويسلط هذا الموقف الضوء على معضلة طويلة الأمد: كيف يمكن لأوروبا فرض الانضباط المالي دون زعزعة استقرار أحد اقتصاداتها الأساسية؟
وعموما فإن هذا الضغط المالي يثير أيضاً تساؤلات حول فعالية المعايير المالية للاتحاد الأوروبي، حيث أن فرنسا ليست وحدها في صراعاتها المتعلقة بالميزانية. وإن البلدان في جميع أنحاء أوروبا تكافح مع ارتفاع الديون وسط أسعار الفائدة المرتفعة وتباطؤ الاقتصادات، وفعالية السياسة المالية للاتحاد الأوروبي تخضع للتدقيق. وإذا لم يتمكن أحد أكبر اقتصادات أوروبا من تلبية القواعد، فقد يؤدي هذا إلى مناقشات إصلاحية أوسع نطاقاً، وربما إلى تفاقم الأزمة المالية. وإن خفض التصنيف الائتماني لفرنسا يثير أيضا أسئلة أوسع نطاقا حول مدى استدامة الاستراتيجيات المالية القائمة على النمو مثل “الاقتصاد الكلي”. ويواجه نهج ماكرون القائم على النمو أولا التدقيق مع استمرار تضخم ديون فرنسا وعجزها.
وفي غياب الأغلبية في البرلمان، فإن فريق ماكرون لديه مساحة محدودة للمناورة في مسائل الميزانية، مما يجعل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المهمة أكثر صعوبة.
رسالة أوسع لأوروبا
إن الصراعات المالية التي تواجهها فرنسا تحمل آثارا تتجاوز حدودها بكثير. حيث إن الاتحاد الأوروبي يعتمد على أكبر اقتصاداته، وخاصة ألمانيا وفرنسا، لتقديم مثال للاستقرار المالي. ومع إدارة ألمانيا لميزانية منضبطة والآن تخضع مالية فرنسا للتدقيق الشديد، هناك تركيز جديد على المساءلة المالية داخل الكتلة. وإن المسار المالي الذي تسلكه فرنسا سوف يعمل كمؤشر رئيسي لكيفية فرض الاتحاد الأوروبي للامتثال المالي بين الدول الأعضاء، وخاصة في بيئة عالية المخاطر حيث يضغط ارتفاع الديون والتضخم على ميزانيات الحكومات في جميع أنحاء القارة.
وعليه فإن خفض تصنيف موديز ليس مجرد انتكاسة لفرنسا؛ بل إنه رسالة إلى صناع السياسات في أوروبا حول عواقب الديون غير المنضبطة. ومع مواجهة أقتصادات الاتحاد الأوروبي لتباطؤ النمو وارتفاع التكاليف، فإن التوقعات بشأن الانضباط المالي تتغير، وقد تصبح تجربة فرنسا قصة تحذيرية للآخرين. ومع أحتمالية المزيد من تخفيضات التصنيف، فإن المسار المالي لفرنسا إلى الأمام سيكون اختبارًا حاسمًا للعزيمة المالية للاتحاد الأوروبي، وربما نقطة تحول لسياساته.